على مر تاريخ الفكر الإنساني ارتبط الإبداع بالمعاناة والعوز والبؤس وظل المبدع ذلك الإنسان المُبعد المُهمش المُقصى وسادت صورة الفقر وقحط الجيب عن كل صاحب موهبة أو قلم، وتزايدت حالات المبدعين المقصيين عن مسرح الحياة الطبيعية إلى دركات الجفاء الاجتماعي والقهر والعوز.
هذا لا يعني أن محنة المبدع تنحصر في العوز ونقص ذات اليد وعدم القدرة على صناعة الحياة المتوازنة ..محنة المبدع تتعدى إلى ذلك القحط الروحي والمعرفي وتلك الجفوة النفسية التي تعتري الكاتب فتؤدي إلى حالة القفلة المزمنة والمفضية إلى جمود الإبداع، فلا يقوى المبدع على صنع الجديد مما يعوض الألم البيولوجي والحاجة المادية .
ليس الفقر مصيبة كبرى للمبدع إن هو تغلب على إنتكاساته الابداعية وحافظ على وهج إضاءاته الفكرية اللازمة .
إن استمرار الحياة الإبداعية يكمن في تخطي صاحب القلم حالات الشكوى المحبطة إلى مساحات العطاء والإشراق للتغلب على ظلمات الفاقة وفراغ اليد.
قد تنتاب صاحب الموهبة حالات شقاء مادي قاتل تنهره على ممارسة طقوسه المبدعة ولامخرج إلا بما تدره طاقته الكامنة المشعة بضوء ينير طريق الإبداع بالولوج إلى أعماق أعماق نفسه المنتجة وروحه التواقة، مما يحجب القليل من شقاوة الحياة القاسية ..
حرفة الإبداع إن صح هذا الوصف حرفة غالية مُطالب صاحبها بصقل موهبته للفوز بكنوز تسكن نفسه ..وليس بالضرورة أن يسكن المبدع قصور كسرى ليتمكن من الإضاءة اللازمة، بل الحالة الإبداعية كلها مثابرة وجد وركوب المعاناة لتنضج الأطباق الفكرية المنيرة للنفس والعالم .
لا تفي الصفحات لسرد معاناة مبدعين عاشوا شامخين في سمو وامتلاء غير آبهين بعضات الزمن المادي عاشوا لفكرهم وإبداعهم وانتجوا منارات فكرية وإبداعية حفظها التراث الإنساني عبر الزمن.